يفرض مجتمع القرن الحادي والعشرين على مختلف مؤسسات المجتمع ضرورة التوجه نحو تحقيق التميز في الأداء على المستويين الفردي والمؤسسي، وقد ظهر ذلك بعد أن شهد مجال الإدارة بوجه عام، والإدارة التربوية بوجه خاص، حركة الإصلاح القائم علي المعايير القياسية، التي أكدت على ضرورة توافر معايير واضحة ومحددة لعمليات التطوير والتحسين في المؤسسات، وتلي ذلك حركة البحث عن التميز in search for excellence، التي أكدت أن تحقيق التميز المؤسسي يجب أن يصبح الشغل الشاغل لجميع المؤسسات على اختلاف مستوياتها.
وقد تزايدت الحاجة إلي التوجه نحو تطبيق إدارة التميز المؤسسي في ظل ما يشهده العصر الحالي من متغيرات وتحديات عديدة تمثلت في: الثورة المعرفية والمعلوماتية، والفجوة الرقمية والديمقراطية، والعولمة وتداعياتها المختلفة، وظهور ما يعرف باقتصاد المعرفة، وما نتج عن هذه التحديات من حدوث تغيرات في أساليب العمل، والتحول النوعي الواضح في تركيبة الموارد البشرية العاملة في مختلف المؤسسات، وتعدد المداخل الإدارية التي يمكن الاستفادة منها في تحسين إنتاجية المؤسسات، والوصول إلى التميز في الأداء.
ولعل إدارة التميز المؤسسي أحد هذه المداخل التي تسهم في تحقيق النجاح التنظيمي، والفعالية التنظيمية، وتلبية حاجات العملاء والتخلص من الممارسات الإدارية التقليدية وأصبح ينظر إليها على أنها مدخل شامل يجمع عناصر ومقومات بناء المؤسسات على أسس متفوقة تحقق لها قدرات متميزة في مواجهة المتغيرات والأوضاع الخارجية المحيطة بها من ناحية، كما تكفل لها تحقيق الترابط والتناسق الكامل بين عناصرها ومكوناتها الذاتية واستثمار قدراتها المختلفة.
وتتطلب إدارة التميز المؤسسي إحداث تغييراً جذرياً في المناخ التنظيمي السائد داخل المؤسسة التربوية ومحدداته، ووجود هياكل مرنة تناسب متطلبات الأداء المتميز، كما تحتاج إلي التدريب المستمر للموارد البشرية بالمؤسسة، بهدف بناء ثقافة التميز بها، ويتطلب ذلك تحقيق التفاعل والتكامل مع عملاء المؤسسة الداخليين والخارجيين، والأنظمة المكونة للمجتمع، وجود إدارة واعية ذات كفايات متعددة تتميز بالمرونة، والقدرة على التكيف مع طبيعة العصر ومتغيراته، والقدرة على تحليل وإدراك العلاقات واتخاذ القرارات.
وقد عرف الفكر الإداري مداخل إدارية متعددة, تجسد مفهوم إدارة التميز من خلال مساهمتها الكبيرة في تحقيق الأسس والمرتكزات الأساسية اللازمة لها (المشار عليها سابقا), ونركز ــــــ هنا ــــــ على أربعة مداخل أساسية تحظى بالاهتمام والتشجيع من طرف المنظمات العالمية للتميز.
- الإدارة الاستراتيجية:
وهي من المناهج الفكرية التي تتسم بالحداثة والريادة وتعرف على أنها طريقة في التفكير والتصرف تؤدي إلى رسم الاتجاه العام وتصور الرؤى المستقبلية للمؤسسة التربوية , وتصميم رسالتها وتحديد غاياتها على المدى البعيد, وتحديد أبعاد العلاقات المتوقعة بينها وبين بيئتها بما يسهم في بيان الفرص والتهديدات المحيطة بها, ونقاط القوة والضعف المميزة لها, وذلك بهدف اتخاذ القرارات الاستراتيجية المؤثرة على المدى البعيد ومراجعتها وتقييمها.
- إدارة الجودة الشاملة:
فلسفة إدارية ومدخل فكري لتأمين جودة المؤسسة التربوية في جميع مراحلها، ابتداء بالمواصفات التي تقابل متطلبات المستفيد مروراً بالتصميم والتكنولوجيا والعمليات الإدارية، معتمدة في ذلك على منهج تكامل الأنشطة ومشاركة الجميع في ذلك لكي يؤدي إلى التحسين والتطوير المستمر.
- إعادة الهندسة:
وهي طريقة جديدة للتفكير وتغيير جذري بهدف التطوير، فهي تعني البدء من الصفر، أي ليس إصلاح أو ترميم الوضع القائم أو إجراء تغييرات تجميلية، بل التخلي التام عن إجراءات العمل القديمة الراسخة والتفكير بصورة جديدة مختلفة في كيفية تقديم الخدمات لتحقيق رغبات المستفيدين .
- القياس المقارن بالأفضل:
وهو عملية بحث مستمرة لقياس ومقارنة أداء الخدمات والممارسات في مؤسسة تربوية معينة بأفضل الرواد في نفس مجالها وتخصصها، كما يمكن أن يكون القياس داخلياً بأن تقارن المؤسسة التربوية أدائها في السنة الحالية مع أدائها في سنوات سابقة حققت فيها مستويات أفضل.
وقد تعددت نماذج التميز واختلفت أهدافها ومنطلقاتها ؛ وقد استفادت نماذج التميز من الخبرات المتراكمة، وسيتم عرض أهم النماذج التي تشترك في جانب أو أكثر مع نماذج التميز وذلك على النحو التالي :
الأنموذج الأوروبي للتميز EFQM : تأسست سنة 1988 المنظمة الأوروبية لإدارة الجودة من طرف 14 منظمة كبرى في أوروبا، حيث أخذت هذه المنظمة على عاتقها مهمة البحث عن التميز الدائم في الاقتصاد الأوروبي، جاعلة ذلك بمثابة الغاية الرئيسية من وجودها، وقد تطورت هذه المنظمة وتوسعت بحيث أضحت تنشط تحت لوائها أكثر من 1000 منظمة من مختلف دول أوروبا وقد قدمت هذه المنظمة سنة 1991 في إطار سعيها نحو الغاية المنشودة أنموذجا للتميز، يمكن أن تستخدمه المنظمة في إجراء تقييم ذاتي لمستويات أدائها، وألحقت هذا النموذج بما يعرف اليوم بالجائزة الأوروبية للجودة لمختلف المنظمات التي تثبت نيتها في البحث عن التميز وتعمل على ذلك من خلال مختلف الإجراءات التي تبين أتباعها نهج التحسين المستمر، ويمكن لهذه الجائزة أن تمنح لأربعة فئات من المنظمات هي الشركات الكبرى، الشركات الصغيرة والمتوسطة، الدائرة والوكالات التشغيلية، منظمات القطاع العام ويستند النموذج الأوروبي على تسعة معايير رئيسية تتوزع بدورها على 32 معيار فرعي.
الأنموذج الأمريكي “مالكوم بالدريج BALDRIGE ” للتميز: تأسست سنة 1987 منظمة “مالكوم بالدريج” الوطنية للتميز في الولايات المتحدة الأمريكية لغرض تعزيز القدرات التنافسية للمنظمات الأمريكية في مواجهة تحديات نظيراتها الأوروبية واليابانية خاصة (19)، وقد قدمت هذه المنظمة ما يعرف اليوم بجائزة “مالكوم بالدريج الوطنية للجودة“، والتي صدرت بقانون فيدرالي “107-100” والموقع من طرف الرئيس الأمريكي.
جائزة “مالكوم بالدريج ” هي جائزة رفيعة المستوى جدا بحيث تمنح من طرف الرئيس الأمريكي شخصيا في حفل يقام سنويا، تعنى بها ثلاث أنواع من المنظمات هي منظمات الأعمال، المنظمات التعليمية والمنظمات الصحية (حيث بدأ برنامج الجائزة يأخذ بعين الاعتبار المنظمات غير الهادفة للربح والمنظمات الحكومية في شكل برنامج تجريبي سنة 2006م وشرع في تسليم الجائزة بشكل رسمي ابتداء من سنة 2007م (20)، ويقدم النموذج الأمريكي للتميز سبعة معايير رئيسية تنقسم بدورها إلى تسعة عشر معيارا فرعيا، يمكن أن تستعملها المنظمات في إجراء تقييم ذاتي موضوعي لمستويات تميزها.
أنموذج التميز الياباني “ديمنج Deming” تم تأسيس الأنموذج عام 1950، يشرف عليه الاتحاد الياباني للعلماء والمهندسين ، ويقدم الأنموذج جائزة تسمى جائزة ديمنج ، وتتجزأ الجائزة إلى ثلاثة تصنيفات أو أقسام هي جائزة Deming للأفراد Deming Prize for Individuals والجائزة التطبيقية Deming Application Prize ومكافأة السيطرة على الجودة لوحدات الأعمال العملياتية Quality Control Award For Operations Business Units ..
و تعتمد آليات التقديم ومنح الجائزة على منطلقات فلسفية تعد عمليات الاختبار فرصة للتطوير المتكامل للمتقدمين وليس اختباراً بالمعنى الدارج، بعبارة أخرى فإن لجنة جائزةDeming لا تحدد أية قضايا تلزم بها المتقدم، لكن يكون الأخير مسؤولاً عن تحديد وتأشير تلك القضايا، ما يمكّن من تطوير مداخل قابلة للتطبيق عملياً في أنشطة الجودة.
وصفوة القول
أن التميز لا يأتي صدفة ولا يتحقق بالتمني بل يتحقق من خلال إدارة لهذا التميز تعمل على استثمار مجمل جهود العاملين في المؤسسة التربوية بكافة مستوياتهم؛ إذ تعتبر إدارة التميز نظاماً متكاملاً يوظف كافة الموارد بهدف رفع مستويات الأداء والإنجاز إلى أعلى المستويات .
وفي ظل التحديات والضغوط الكبيرة التي تعيشها المؤسسات التربوية إثر التحولات المتسارعة في السوق العالمي سياسيا واقتصادياً، وهيكلياً وتكنولوجياً…إلخ فإن المطلوب هو البحث باستمرار عن أفضل المناهج والأساليب لاعتمادها في الحفاظ على مستويات الجودة والتميز التي تحقق التفوق لها كميزة تنافسية.
اعداد مديرة ادارة الجودة وقياس الأداء
هند محميد حمد الفقيه /المملكة العربية السعودية / وزارة التعليم